يطرح الدكتور رمزي بارود في هذا المقال قراءة تحليلية حادّة للصراع على مستقبل غزة وفلسطين المحتلة، ويؤكد أن ثلاث سرديات كبرى تتنافس على تعريف المشهد، لكن واحدة فقط تتحول إلى سياسات نافذة ووقائع قسرية على الأرض، وهي السردية الإسرائيلية القائمة على الهيمنة والإبادة، والمدعومة بالقوة العسكرية والحماية السياسية.

 

يشير ميدل إيست مونيتور إلى أن هذه السرديات لا تتحرك في فراغ، بل تتصارع داخل نظام دولي يختار الصمت أو التواطؤ، ما يسمح بتحويل العنف إلى سياسة دائمة، ويجعل من غياب المحاسبة العامل الحاسم في استمرار الجرائم.

 

سردية واشنطن: سلام ادّعائي بلا قانون

 

تنطلق السردية الأولى من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتحظى بتبنّي واسع من الحلفاء الغربيين. تبني هذه الرؤية خطابها على ادعاء شخصي مفاده أن ترامب نجح في “حل” أزمة الشرق الأوسط، وفتح باب سلام طال انتظاره. يقدّم الخطاب شخصيات مثل ترامب وجاريد كوشنر ومايك هاكابي بوصفهم مهندسي نظام إقليمي جديد.

 

يعتمد هذا التصور على مركزية أميركية إقصائية، ويتعامل مع الشرعية الدولية بوصفها تفصيلاً يمكن تجاوزه. يتجاهل الخطاب أي التزام واضح بإقامة دولة فلسطينية، ويستبدل القانون الدولي بدبلوماسية الصفقات، حيث يصبح الرضا الأميركي المعيار الوحيد للمشروعية. يعلن ترامب انتهاء الحرب في غزة، لكنه يطرح “خطة سلام” تُفرغ العدالة من مضمونها، وتحوّل القضية الفلسطينية إلى ملف إداري بلا حقوق سيادية.

 

السردية الفلسطينية: قانون دولي وحقوق غير قابلة للتصرف

 

تتمسك السردية الثانية بحقوق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير، وتستند إلى القانون الدولي والمبادئ الإنسانية. تحظى هذه الرؤية بدعم فلسطيني وعربي، وبإسناد واسع من دول الجنوب العالمي. تعكس تصريحات مسؤولين عرب هذا التوجه، حيث يؤكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أن حل الدولتين يشكل الطريق الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار، ويحذّر من أن تجاهل القانون الدولي يفتح الباب أمام “شريعة الغاب”.

 

ترفض هذه السردية اختزال السلام في ترتيبات أمنية أو اقتصادية، وتصرّ على أن العدالة تشكل الأساس الحقيقي لأي استقرار. لكنها، رغم قوتها الأخلاقية والقانونية، تفتقر إلى أدوات التنفيذ والضغط، ما يحدّ من قدرتها على وقف التدهور الميداني.

 

السردية الإسرائيلية: سياسة القوة وصناعة الوقائع

 

تفرض السردية الثالثة نفسها بوصفها الأكثر تأثيرًا لأنها الوحيدة المدعومة بسياسات عدوانية ملموسة. تعبّر هذه الرؤية عن نفسها عبر عنف ممنهج ضد المدنيين، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وتشريعات حكومية تعلن صراحة رفض قيام دولة فلسطينية. يعمل الفاعلون الإسرائيليون في مناخ إفلات شبه كامل من العقاب، ويصنعون وقائع لا رجعة عنها.

 

يستشهد المقال بمواقف وتصريحات رسمية تكشف طبيعة هذه السردية. يظهر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في الكنيست مرتديًا دبوسًا على شكل حبل مشنقة، ويدفع نحو تشريع عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين، معلنًا خيارات القتل بدم بارد. يعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش تخصيص مئات الملايين من الدولارات لتوسيع المستوطنات خلال خمس سنوات، في خطوة تمهّد لضم رسمي، وتشمل نقل قواعد عسكرية وإنشاء تجمعات سكنية وتثبيت سجل أراضٍ يرسّخ السيطرة الإسرائيلية.

 

يحسم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الموقف بإعلانه القاطع أن دولة فلسطينية لن تقوم، ويصف قيامها بأنه تهديد وجودي لإسرائيل. يؤكد هذا التصريح أن الاستراتيجية الحكومية تقوم على التوسع الدائم وحرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير.

 

المحاسبة بوصفها الحدّ الأخلاقي الأخير

 

يرى بارود أن هذه السرديات لا يمكن أن تتعايش إلى ما لا نهاية. يوقف فقط الضغط الحقيقي مسار الإبادة والتدمير، عبر أدوات سياسية وقانونية واقتصادية واضحة. يدعو المقال إلى فرض عقوبات عاجلة على إسرائيل ومسؤوليها، وتطبيق حظر شامل على السلاح، وتفعيل المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

 

يؤكد التحليل أن الاكتفاء بالإدانة اللفظية يسمح باستمرار الجرائم، وأن على الدول الداعمة للحقوق الفلسطينية أن تنتقل من الرمزية إلى الفعل المنسق. يشير إلى أن عزلة إسرائيل تتعمق عالميًا مع تراجع الرأي العام لصالحها، ويطالب باستثمار هذه اللحظة لبناء جبهة دولية تفرض احترام القانون الدولي.

 

يخلص المقال إلى أن السلام الدائم لا يقوم على ميزان القوة، بل على العدالة. تمثل غزة اليوم الحدّ الأخلاقي الفاصل بين نظام عالمي يقبل بالإفلات من العقاب، وعالم يختار مواجهة الإبادة بوصفها جريمة سياسية لا يمكن التسامح معها.



https://www.middleeastmonitor.com/20251219-the-three-narratives-gaza-as-the-last-moral-frontier-against-israels-policy-of-annihilation/